نظرية التعلق - جون بولبي Attachment Theory - Bowlby

03 نوفمبر 2023 491 0


مقدمة عن نظرية التعلق

تُعد نظرية التعلق من أهم النظريات في علم النفس التطوري، إذ تفسر كيفية تشكل العلاقات العاطفية المبكرة بين الطفل ومقدمي الرعاية. وتركز النظرية بشكل خاص على أهمية الرابطة الانفعالية بين الطفل والأم أو مقدم الرعاية الأساسي.
ويُعتبر عالم النفس البريطاني جون بولبي هو مؤسس هذه النظرية، إذ نشر أبحاثه الرائدة حول التعلق في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. وقد استند بولبي في نظريته على مفاهيم من علم النفس التحليلي، وخاصةً أعمال سيجموند فرويد حول العلاقة بين الأم والطفل، بالإضافة إلى الأبحاث السلوكية مثل تجارب هاري هارلو مع القردة.
وترتكز نظرية التعلق على فكرة أن الرضّع البشريين يولدون مع ميلٍ فطري وغريزي نحو تكوين رابطة عاطفية مع مقدمي الرعاية. وهذه الرابطة توفر للطفل الشعور بالأمان والحماية، ما يسمح له بالاستكشاف والنمو بشكل صحي. 
وتشير الأبحاث إلى أن نوعية التعلق خلال مرحلة الطفولة المبكرة تؤثر على تطور الدماغ والشخصية والسلوك الاجتماعي لاحقًا. كما ترتبط أنماط التعلق بمدى ثقة الفرد بالآخرين وقدرته على تكوين علاقات آمنة ومستقرة عاطفيًا.
وهناك أربعة أنماط رئيسية من التعلق وفقًا لنظرية بولبي: التعلق الآمن والتعلق القلق والتعلق المتجنب والتعلق غير المنظم. ويرتبط كل نمط بسلوكيات واستجابات مختلفة. 
فالأطفال ذوي التعلق الآمن يشعرون بالطمأنينة تجاه مقدمي الرعاية ويستكشفون بيئتهم بحرية. أما الأطفال ذوي التعلق القلق فيميلون للتشبث وعدم الابتعاد عن مقدمي الرعاية. والأطفال ذوي التعلق المتجنب غالبًا ما يتجنبون مقدمي الرعاية ولا يسعون للحصول على الدعم منهم. أما الأطفال ذوي التعلق غير المنظم فليس لديهم نمط محدد ويظهرون سلوكيات متضاربة.
وقد دعمت العديد من الدراسات التجريبية مفاهيم نظرية التعلق وأكدت على أهمية التعلق الآمن في النمو السليم للطفل. ومن أبرز هذه الدراسات تجارب هاري هارلو مع القردة الصغيرة، والتي أظهرت الآثار السلبية للحرمان من التعلق. كما قدمت أبحاث ماري أينسورث أدلة قوية على أهمية التعلق ورابطة الأمومة.
وبذلك، تُعد نظرية التعلق إطارًا مرجعيًا هامًا في فهم التطور الانفعالي والاجتماعي، كما توفر توجيهات عملية في مجالي التربية والصحة النفسية لتعزيز النمو السليم عند الأطفال.


 الأسس النظرية لجون بولبي


اعتمد جون بولبي في بناء نظريته على مفاهيم من التحليل النفسي وعلم النفس التطوري. فقد تأثر بولبي بأفكار سيجموند فرويد حول أهمية العلاقة المبكرة بين الطفل والأم، إلا أنه انتقد فكرة فرويد القائلة بأن هذه العلاقة مبنية بالكامل على الغرائز الجنسية.

واعتقد بولبي أن الدافع الأساسي للتعلق ليس جنسيًا بل هو دافع فطري لتحقيق الأمان والبقاء. فالطفل وُلد مع حاجة بيولوجية لتكوين رابطة قوية مع مقدم الرعاية حتى يشعر بالأمان ويتمكن من النمو بشكل سليم.

كما تأثر بولبي بالمفهوم السلوكي عن "الاستجابة" و"المثير"، فاعتبر أن سلوك التعلق لدى الطفل هو استجابة لمثيرات داخلية وخارجية معينة، مثل بكاء الطفل استجابةً لغياب الأم. 

ومن المفاهيم المركزية في نظرية بولبي فكرة "النموذج العملي الداخلي"، إذ يُشكل الطفل تمثيلاً داخليًا أو نموذجًا ذهنيًا لمقدم الرعاية يستند إليه في تنظيم سلوكه وانفعالاته.

كما ركز بولبي على مفهوم "قاعدة الأمان" التي يوفرها التعلق الآمن، إذ تتيح للطفل الشعور بالطمأنينة والثقة لاستكشاف بيئته والتفاعل مع الآخرين. وهكذا ارتكزت نظرية بولبي على فكرة أن التعلق ضرورة بيولوجية ونفسية لبناء الشخصية والعلاقات الاجتماعية.


أنماط التعلق وفقًا لبولبي


حدد بولبي أربعة أنماط رئيسية للتعلق تتشكل في مرحلة الطفولة المبكرة:

أولاً: التعلق الآمن

يتسم الأطفال ذوو التعلق الآمن بالشعور بالأمان والطمأنينة تجاه مقدمي الرعاية. فهم يستخدمونهم كقاعدة آمنة يلجأون إليها عند الحاجة، وفي الوقت نفسه يستكشفون بيئتهم بحرية واستقلالية. وهذا النمط مرتبط بالكفاءة الاجتماعية وتقدير الذات.

ثانيًا: التعلق القلق 

يميل الأطفال ذوو التعلق القلق إلى التشبث المفرط بمقدمي الرعاية والخوف من فقدانهم. كما يجدون صعوبة في الانفصال عنهم واستكشاف البيئة بحرية. وغالبًا ما يرتبط هذا النمط بعدم الثقة والقلق من المواقف الجديدة.

ثالثًا: التعلق المتجنب

يميل الأطفال ذوو التعلق المتجنب إلى تجنب التفاعل مع مقدمي الرعاية وعدم الاعتماد عليهم. وربما يرجع ذلك إلى رعاية غير حساسة أو رفض من قِبل مقدمي الرعاية. وهذا النمط مرتبط بمشاكل في العلاقات وانخفاض تقدير الذات. 

رابعًا: التعلق غير المنظم

لا يظهر الأطفال ذوو التعلق غير المنظم نمطًا واضحًا من حيث التعلق، إذ يتناوبون بين التشبث المفرط وتجنب مقدمي الرعاية. وغالبًا ما يرتبط هذا برعاية غير متوافقة وغير متسقة من قِبل مقدمي الرعاية.

وهكذا حددت نظرية التعلق لبولبي الأسس المبكرة للشخصية والسلوك الاجتماعي، من خلال التركيز على نوعية التعلق بين الطفل ومقدمي الرعاية.



الجزء الرابع: التجارب الداعمة لنظرية التعلق


لقد أسهمت العديد من التجارب والدراسات التطبيقية في تعزيز نظرية التعلق وتوفير أدلة تجريبية على صحتها. ومن أبرز هذه الدراسات:

1- تجارب هاري هارلو

قام عالم النفس هاري هارلو في الخمسينيات بتجارب شهيرة على القردة الصغيرة، إذ فصل بينها وبين أمهاتها ودرس آثار ذلك. وخلصت التجارب إلى حدوث اضطرابات نفسية وسلوكية لدى القردة نتيجة حرمانها من التعلق بالأم. مما يؤكد أهمية التعلق للنمو السليم.

2- أبحاث إريك إريكسون

ركز إريكسون على النمو النفسي الاجتماعي للطفل، وأكد على أهمية تطور الثقة الأساسية لدى الطفل من خلال التعلق الآمن بالأم خلال السنة الأولى.

3- تجارب ماري أينسورث 

قامت أينسورث بدراسة التفاعل بين الأمهات وأطفالهن، وخلصت إلى أن التعلق الآمن يرتبط بالحساسية والاستجابة الفاعلة من قِبل الأم لاحتياجات الطفل.

كل هذه التجارب أكدت على أهمية جودة العلاقة والتفاعل بين مقدمي الرعاية والطفل في تشكيل نمط التعلق وتأثيره على النمو النفسي والاجتماعي. لذلك تُعد هذه الأبحاث دعمًا قويًا لنظرية التعلق التي وضعها بولبي.


تفضل الجزء الخامس عن تأثير نظرية التعلق على البالغين:


تأثير نظرية التعلق على البالغين


ترى نظرية التعلق أن لنمط التعلق في مرحلة الطفولة تأثيرات امتدادية على الحياة في مرحلة البلوغ، إذ تستمر الأنماط المبكرة للتعلق في التأثير على شخصية الفرد وعلاقاته مع الآخرين.

فالأشخاص الذين نما لديهم تعلق آمن مع مقدمي الرعاية في الطفولة، يميلون إلى تكوين علاقات آمنة ومستقرة في مرحلة البلوغ. بينما الأشخاص ذوي التعلق القلق أو المتجنب يجدون صعوبة في الثقة بالآخرين والالتزام في العلاقات الرومانسية.

كما يؤثر نمط التعلق على كيفية تعامل الفرد مع الضغوط والصدمات النفسية. فالأشخاص ذوي التعلق الآمن لديهم مصادر داخلية أكثر للدعم الانفعالي مقارنةً بذوي أنماط التعلق الأخرى.

وتشير الأبحاث إلى أن أنماط التعلق غير الآمنة ترتبط بمعدلات أعلى من الاكتئاب والقلق لدى البالغين. كما تؤثر سلبًا على تقدير الذات والرضا عن الحياة.

لذلك، من المهم توفير الرعاية المناسبة والتعلق الآمن خلال مرحلة الطفولة، ليس فقط للنمو السليم عند الطفل وإنما لتأثير ذلك الممتد على شخصيته وحياته كبالغ. وتُعد نظرية التعلق إطارًا مفيدًا لفهم هذه التأثيرات طويلة المدى.

تفضل الجزء السادس عن التطبيقات العملية لنظرية التعلق:

التطبيقات العملية لنظرية التعلق


توفر نظرية التعلق إرشادات عملية هامة في مجالي التربية والصحة النفسية، من خلال التأكيد على أهمية نوعية الرعاية والتفاعل بين الطفل ومقدمي الرعاية في السنوات الأولى من عمره.

فعلى صعيد التربية، تشدد النظرية على ضرورة تعزيز التعلق الآمن من خلال:
- توفير رعاية حساسة ومستجيبة لاحتياجات الطفل.
- تشجيع استقلالية الطفل بالتدريج.
- تجنب الانفصال المفاجئ عن مقدمي الرعاية. 

أما في مجال الصحة النفسية، فتستخدم النظرية في:
- تشخيص اضطرابات التعلق لدى الأطفال. 
- علاج المشكلات النفسية المرتبطة بأنماط التعلق غير الآمنة.
- تقييم العلاقات الأسرية وتقديم المشورة للوالدين.
- فهم الجذور المبكرة لبعض الاضطرابات النفسية عند البالغين.

وبذلك، تُعد نظرية التعلق إطارًا مرجعيًا هامًا يسترشد به المختصون في مجالي تنشئة الأطفال وعلاجهم نفسيًا، بهدف تعزيز التكيف النفسي والاجتماعي.



النقد والتوسع في نظرية التعلق


على الرغم من أهمية نظرية التعلق إلا أنها واجهت بعض النقد، أبرزه:

- انتقاد التركيز المفرط على علاقة الطفل بالأم وإهمال عوامل أخرى كالعلاقة بالأب.

- اعتبار النظرية أن التعلق غريزة فطرية بينما هناك من يراها سلوكًا مكتسبًا. 

- صعوبة التمييز بين أنماط التعلق المختلفة في بعض الأحيان.

إلا أن هذه الانتقادات أدت إلى مزيد من البحث والتوسع في النظرية، من خلال:

- دراسة أنماط تعلق متباينة تجاه الأم والأب.

- التركيز على التفاعل بين العوامل الفطرية والبيئية في التعلق.

- تطوير نماذج وأدوات أكثر دقة لتقييم أنماط التعلق.

- ربط نظرية التعلق بنظريات أخرى كنظريات العلاقات الموضوعية والذكاء العاطفي.

وهكذا أسهم النقد البناء في تطور النظرية وتوسعها، لتظل الإطار المرجعي الهام في فهم التطور الانفعالي والاجتماعي للإنسان.



في الختام، تُعد نظرية التعلق التي وضعها جون بولبي إطارًا نظريًا هامًا في فهم الروابط الانفعالية المبكرة وأثرها على النمو النفسي والاجتماعي. 

وقد ركزت النظرية على الحاجة الفطرية للتعلق لدى الإنسان، وحددت أربعة أنماط رئيسية للتعلق تتشكل استجابةً لطبيعة التفاعل مع مقدمي الرعاية.

كما أكدت عدة دراسات تجريبية على أهمية التعلق الآمن بالنسبة للنمو السليم عاطفيًا واجتماعيًا.

وتوفر النظرية إرشادات عملية لتربية الأطفال وعلاجهم نفسيًا، بالإضافة إلى فهم جذور السلوك عند البالغين.

وعلى الرغم من بعض الانتقادات، مازالت نظرية التعلق محورية في فهم تطور العلاقات الإنسانية والصحة النفسية. ويُتوقع استمرار تطورها وتوسعها مع ظهور أبحاث جديدة في هذا المجال.